السلطان محمد الفاتح

ولد السلطان محمد الفاتح في (27 من رجب 835 هـ = 30 من مارس 1432م)، ونشأ في كنف أبيه السلطان “مراد الثاني” سابع سلاطين الدولة العثمانية، الذي تعهّده بالرعاية والتعليم؛ ليكون جديرًا بالسلطنة والنهوض بمسئولياتها؛ فأتم حفظ القرآن، وقرأ الحديث، وتعلم الفقه، ودرس الرياضيات والفلك وأمور الحرب، وإلى جانب ذلك تعلم العربية والفارسية واللاتينية واليونانية، واشترك مع أبيه السلطان مراد في حروبه وغزواته.

محمد الفاتح

ثم عهد إليه أبوه بإمارة “مغنيسيا”، وهو صغير السن، ليتدرب على إدارة شئون الدولة وتدبير أمورها، تحت إشراف مجموعة من كبار علماء عصره، مثل: الشيخ “آق شمس الدين”، و”المُلا الكوراني”؛ وهو ما أثر في تكوين شخصية الأمير الصغير، وبناء اتجاهاته الفكرية والثقافية بناءً إسلاميًا صحيحًا.

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%AA%D8%AD

وقد نجح الشيخ “آق شمس الدين” في أن يبث في روح الأمير محمد الفاتح حب الجهاد والتطلع إلى معالي الأمور، وأن يُلمّح له بأنه المقصود ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم، فشبَّ طامح النفس، عالي الهمة، موفور الثقافة، رهيف الحس والشعور، أديبًا شاعرًا، فضلاً عن إلمامه بشئون الحرب والسياسة.

الشيخ آق شمس الدين

يعد الشيخ “آق شمس الدين” أحد أبرز أعلام الحضارة الإسلامية في العهد العثماني. وهو الشيخ “محمد شمس الدين بن حمزة”، ويتصل نسبه إلى الخليفة الراشد “أبو بكر الصديق” رضي الله عنه، وهو أستاذ السلطان “محمد الفاتح”، والفاتح المعنوي لمدينة إسطنبول.

ولد آق شمس الدين في دمشق عام 1389م، وحفظ القرآن وهو في السابعة من عمره ثم انتقل مع عائلته إلى أماسيا، اهتم الشيخ آق شمس الدين بالعلم والفن منذ صغر سنه، ودرس في أماسيا ثم في حلب ثم في أنقرة، وكرس حياته للعلم حتى غدا من العلماء المشهوريين في مجال الطب والفلك وعلم الأحياء والرياضيات والعلوم الإسلامية، وبعد ما أكمل دراسته اتخذ مكانه بين العلماء العظماء، فأصبح أحد كبار علماء عصره، وعمل في المدارس العثمانية لسنوات طويلة فنشأ على يده مئات الطلاب من المبدعين.

بدأت شهرته عندما كان مدرساً للسلطان “محمد الثاني”، حيث بقي قائماً على تدريس السلطان “محمد الفاتح” حتى بلغ أشده، فتعلم الفاتح على يده العلوم الأساسية كالقرآن الكريم والسنة النبوية والفقه واللغات (العربية والفارسية والتركية) وعلم الفلك والرياضيات والتاريخ، لذا فقد كان له تأثيراً بالغاً على توجهات محمد الفاتح عسكريا وثقافياً.

وعندما أصبح الأمير محمد سلطاناً على الدولة العثمانية وجهه “آق شمس الدين” على الفور للتحرك بجيوشه لفتح القسطنطينية، فكان له مساهمة مباشرة وغير مباشرة في فتح اسطنبول، حيث شارك مع ابنائه وطلابه وتلاميذه في جيش الفتح العظيم وهناك لُقب باسم “الفاتح الروحي لمدينة إسطنبول”، وبعد الفتح العظيم للقسطنطينية كان الشيخ آق شمس الدين أول من يلقي خطبة للجمعة في مسجد آيا صوفيا.

 فكان محبوباً لدى الفاتح، وقد عبّر الفاتح عن احترامه له بقوله: “إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري، وإنّني أشعر وأنا بجانبه بالانفعال والرهبة”.

لم يحتل أحد في قلب محمد الفاتح مكانة مثلما احتلها أستاذه آق شمس الدين، أما آق شمس الدين فكان مهيباً لا يخشي سوا الله، لذا كان عند قدوم السلطان لزيارته لا يقوم له من مجلسه، أما عند زيارته للسلطان فقد كان السلطان يقوم له من مجلسه توقيراً له واحتراماً ويجلسه بجانبه، حتى لاحظ ذلك وزراء السلطان وحاشيته، حتى أبدى الصدر الأعظم “محمود باشا” دهشته للسلطان فقال له : لا أدري يا سلطاني العظيم، لم تقوم للشيخ “آق شمس الدين” عند زيارته لك، من دون سائر العلماء والشيوخ، في الوقت الذي لا يقوم لك تعظيماً عند زيارتك له؟

فأجابه السلطان: أنا أيضاً لا أدري السبب، ولكني عندما أراه مقبلاً علي، لا أملك نفسي من القيام له، أما سائر العلماء والشيوخ، فإني أراهم يرتجفون من حضوري، وتتلعثم ألسنتهم عندما يتحدثون معي، في الوقت الذي أجد نفسي أتلعثم عند محادثتي الشيخ آق شمس الدين.

هكذا كان الشيخ “آق شمس الدين” لا يخشى في الله لومة لائم، فلم يكن ذاك العالم الذي يرتجي رضوان السلطان من دون الله ككثير من علماء هذا العصر الذين لا شاغل لهم سوى منافقة السلطان، متاجرين في الدين لايقولون إلاما يُرضي الحكام، إنما كان ذو كلمة حق، وبمثله تنهض الأمة الإسلامية وتعلو راية الحق.

كما اشتهر الشيخ آق شمس الدين في علم النبات، فكان له الكثير من البحوث فيما يخص علم النبات والصيدلة حتى ضُرب فيه مثل يقول : “إن النبات ليحدث آق شمس الدين”، واهتم أيضاً بالأمراض النفسية فاشتهر بلقب “طبيب الأرواح”، وكان له بصمة بارزة في مجال الطب والأمراض المعدية حيث ألف كتاباً في ذلك بعنوان “مادة الحياة” ومما ورد في هذا الكتاب “من الخطأ تصور أن الأمراض تظهر على الأشخاص تلقائياً، فالأمراض تنتقل من شخص إلى آخر بطريقة العدوى، وهذه العدوى صغيرة ودقيقة إلى درجة عدم القدرة على رؤيتها بالعين المجردة، لكن هذا يحدث بواسطة بذور حية”.

وبهذا فقد وضع الشيخ آق شمس الدين أول تعريف للميكروب في القرن الخامس عشر، حيث لم يكن قد ظهر الميكروسكوب (المجهر) بعد، ليأتي بعد ذلك بأربعة قرون العالم الفرنسي “لويس باستير” ليصل إلى نفس النتيجة.

من أشهر مؤلفاته كتابين في الطب هما “مادة الحياة” و”كتاب الطب” وهما باللغة العثمانية، و سبع كتب باللغة العربية من أهمها “حل المشكلات” و “الرسالة النورية” و “رسالة في ذكر الله”.

عاد الشيخ آق شمس الدين بعد ست سنوات من فتح القسطنطينية إلى موطنه كونياك بعد أن أحس بالحاجة إلى ذلك رغم إصرار السلطان على بقائه في استانبول فمات عند وصوله عام (863 هـ/ 1459 م).

تولى محمد الفاتح السلطنة بعد وفاة أبيه في (5 من المحرم 855 هـ=7من فبراير 1451م)، وبدأ في التجهيز لفتح القسطنطينية (اسطنبول) ، ليحقق الحلم الذي يراوده، وليكون هو محل البشارة النبوية، وفي الوقت نفسه يسهل لدولته الفتية الفتوحات في منطقة البلقان، ويجعل بلاده متصلة لا يفصلها عدو يتربص بها.

ومن أبرز ما استعد له لهذا الفتح المبارك أن صبَّ مدافع عملاقة لم تشهدها أوروبا من قبل، وقام ببناء سفن جديدة في بحر مرمرة لكي تسد طريق “الدردنيل”، وشيّد على الجانب الأوروبي من “البوسفور” قلعة كبيرة عُرفت باسم قلعة “روملي حصار” لتتحكم في مضيق البوسفور.

القسطنطينية

فتح القسطنطينية

وبعد أن أتم السلطان كل الوسائل التي تعينه على تحقيق النصر، زحف بجيشه البالغ 265 ألف مقاتل من المشاة والفرسان، تصحبهم المدافع الضخمة، واتجهوا إلى القسطنطينية، وفي فجر يوم الثلاثاء الموافق (20 من جمادى الأولى 857هـ= 29 من مايو 1453م) نجحت قوات محمد الفاتح في اقتحام أسوار القسطنطينية، في واحدة من العمليات العسكرية النادرة في التاريخ، 

.. وقد لُقب السلطان “محمد الثاني” من وقتها بـ”محمد الفاتح” وغلب عليه، فصار لا يُعرف إلا به.

FnmozkM

ولما دخل المدينة ترجّل عن فرسه، وسجد لله شكرًا، ثم توجه إلى كنيسة “آيا صوفيا”، وأمر بتحويلها مسجدًا، وأمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي الجليل “أبي أيوب الأنصاري” الذي كان ضمن صفوف المحاولة الأولى لفتح المدينة العريقة، وقرر اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم “إسلام بول” أي دار الإسلام، ثم حُرفت بعد ذلك واشتهرت بإستانبول، وانتهج سياسة متسامحة مع سكان المدينة، وكفل لهم ممارسة عباداتهم في حرية كاملة، وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار إلى منازلهم.

تركــــــــيا عام 1431 هــ 1164

ما بعد الفتح

بعد إتمام هذا الفتح الذي حققه محمد الثاني وهو لا يزال شابًا لم يتجاوز الخامسة والعشرين -وكان هذا من آيات نبوغه العسكري المبكر – اتجه إلى استكمال الفتوحات في بلاد البلقان، ففتح بلاد الصرب، وبلاد المورة وبلاد الأفلاق والبغدان (رومانيا) سنة ، وألبانيا بين عامي وبلاد البوسنة والهرسك بين عامي ، ودخل في حرب مع المجر سنة كما اتجهت أنظاره إلى آسيا الصغرى ففتح طرابزون .

كان من بين أهداف محمد الفاتح أن يكون إمبراطورًا على روما، وأن يجمع فخارًا جديدًا إلى جانب فتحة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، ولكي يحقق هذا الأمل الطموح كان عليه أن يفتح إيطاليا، فأعدَّ لذلك عدته، وجهّز أسطولاً عظيمًا، تمكّن من إنزال قواته وعدد كبير من مدافعه بالقرب من مدينة “أوترانت”، ونجحت تلك القوات في الاستيلاء على قلعتها، 

articles image120190526073601l3um

وعزم محمد الفاتح على أن يتخذ من تلك المدينة قاعدة يزحف منها شمالاً في شبه جزيرة إيطاليا، حتى يصل إلى روما، لكن المنيّة وافته في (4 من ربيع الأول 886هـ=3 من مايو 1481م)، واُتهم أحد أطبائه بدس السم له في الطعام، وكان لموته دوي هائل في أوروبا، التي تنفست الصعداء حين علمت بوفاته، وأمر البابا أن تقام صلاة الشكر ثلاثة أيام ابتهاجًا بهذا النبأ.

محمد الفاتح رجل الدولة وراعي الحضارة

لم تكن ميادين الجهاد والحرب التي خاضها محمد الفاتح خلال مدة حكمه التي بلغت ثلاثين عامًا هي أبرز إنجازات محمد الفاتح؛ حيث اتسعت الدولة العثمانية اتساعًا عظيمًا لم تشهده من قبل -وإنما كان رجل دولة من طراز رفيع، فقد استطاع بالتعاون مع الصدر الأعظم “قرة مانلي محمد باشا”، وكاتبه “ليث زاده محمد جلبي” وضع الدستور المسمى باسمه، وقد بقيت مبادئه الأساسية سارية المفعول في الدولة العثمانية حتى عام (1255هـ=1839م).

واشتهر محمد الفاتح بأنه راع للحضارة والأدب، وكان شاعرًا مجيدًا له ديوان شعر، وقد نشر المستشرق الألماني “ج. جاكوب” أشعاره في برلين سنة (1322هـ=1904م)، وكان الفاتح يداوم على المطالعة وقراءة الأدب والشعر، ويصاحب العلماء والشعراء، ويصطفي بعضهم ويُوليهم مناصب الوزارة.

ومن شغفه بالشعر عهد إلى الشاعر “شهدي” أن ينظم ملحمة شعرية تصور التاريخ العثماني على غرار “الشاهنامة” التي نظمها الفردوسي.

وكان إذا سمع بعالم كبير في فن من الفنون قدّم له يد العون والمساعدة بالمال، أو باستقدامه إلى دولته للاستفادة من علمه، مثلما فعل مع العالم الفلكي الكبير “علي قوشجي السمرقندي”، وكان يرسل كل عام مالاً كثيرًا إلى الشاعر الهندي “خواجه جيهان”، والشاعر الفارسي “عبد الرحمن جابي”.

واستقدم محمد الفاتح رسامين من إيطاليا إلى القصر السلطاني، لإنجاز بعض اللوحات الفنية، وتدريب بعض العثمانيين على هذا الفن.

وعلى الرغم من انشغال الفاتح بالجهاد فإنه عُني بالإعمار وتشييد المباني الراقية، فعلى عهده أنشئ أكثر من ثلاثمائة مسجد، منها في العاصمة “إستانبول” وحدها (192) مسجدًا وجامعًا، بالإضافة إلى (57) مدرسة ومعهدًا، و(59) حمامًا.

ومن أشهر آثاره المعمارية مسجد السلطان محمد، وجامع أبي أيوب الأنصاري، وقصر “سراي طوب قبو”.

لقد كان الفاتح مسلمًا ملتزمًا بأحكام الشريعة الإسلامية، تقيًا ورعًا بفضل النشأة التي نشأها وأثرت فيه تأثيرًا عظيمًا، أما سلوكه العسكري فكان سلوكًا متحضرًا، لم تشهده أوروبا في عصورها الوسطى ولم تعرفه شريعتها من قبل.

المصادر

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%AA%D8%AD